الحصاد السوري: عام على التحرير
Ara 30, 2025 592

الحصاد السوري: عام على التحرير

Font Size

مقدمة  

شهدت سوريا في عامها الأول بعد التحرير لحظة تاريخية في عملية إعادة صياغة تشكيل الدولة السياسي والاجتماعي والأمني؛ إذ دخلت البلاد طوراً انتقالياً يتداخل فيه البناء مع التفكيك، وتتعاقب فيه خُطوات التأسيس مع تداعيات المرحلة السابقة. ومع انقضاء السنة الأولى على سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، بدا المشهد السوري كأنه يتحرك بين مستويين متوازيين: أحدهما يسعى إلى تثبيت معالم الدولة الناشئة عَبْر إجراءات سياسية ودستورية عاجلة، والآخر يتفاعل مع واقع اجتماعي وأمني واقتصادي ما يزال يعيد ترتيب ذاته تحت وطأة تحوُّلات عميقة.  

في غضون ذلك، برزت سلسلة خُطوات رسمت ملامح المرحلة الانتقالية، بدءاً من منع الفراغ السياسي، ومروراً بالمؤتمرات الوطنية، ووصولاً إلى الإعلان الدستوري وتشكيل الحكومة. ورغم التحديات التي واجهت ذلك فإن الإجراءات التي اتخذتها السلطة الجديدة أسهمت في الانتقال لمرحلة جديدة ركيزتها الاعتراف الدولي.  

أنتج حصاد عام على التحرير بِنْية عسكرية مختلفة جذرياً عن المرحلة السابقة، بعد دمج الفصائل وتأسيس مؤسسة جديدة للجيش، في وقت ظلّت فيه ملفات أخرى -مثل قسد والحرس الوطني في السويداء- تُلقي ظلالها على عملية إعادة بناء قطاع الدفاع والأمن. من جانبه واجه الاقتصاد انتقالاً من الانكماش العميق إلى الاستقرار الحَذِر، مستفيداً من تخفيف العقوبات وتوحيد السياسات. وبهذا اكتملت صورة عام هو الأكثر كثافة منذ اندلاع الثورة، عام تتقاطع فيه إعادة التأسيس مع التحدِّيَات، وتتشكّل فيه ملامح سوريا الجديدة وسط واقع ما يزال في طَوْر التشكُّل.  

أولاً: الحصاد السياسي  

1.   الحصاد السياسي الداخلي:  

فور سقوط نظام الأسد في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024 حدثت تحوُّلات جذرية في المشهد السياسي السوري على الصعيد الداخلي كان أساسها منع حدوث فراغ في السلطة أولاً للإبقاء على كيان الدولة السياسي، ومكانتها القانونية الدولية، عبر خُطوات عديدة لاستكمال العملية الانتقالية السياسية بما يتسق مع قرار مجلس الأمن 2254 (2015)، وترافق ذلك مع خُطوات سياسية أخرى لبسط سلطة الدولة على كامل أراضيها، للمحافظة على وحدة البلاد وسلامة أراضيها، ومنع حدوث انقسام فيها. وقد مرّت هذه العملية بعدة خُطوات هي:  

تشكيل حكومة تصريف الأعمال: في 10 كانون الأول/ ديسمبر 2024 تم تكليف محمد البشير رئيس حكومة الإنقاذ بتشكيل حكومة لتصريف الأعمال، واستمرت في عملها إلى 29 آذار/ مارس 2025.  

مؤتمر النصر: انعقد في 29 كانون الثاني/ يناير 2025 وجرى فيه تكليف أحمد الشرع بمهام رئاسة الجمهورية، وتفويضه بتشكيل مجلس تشريعي مؤقت، وقرّر المؤتمر حلّ حزب البعث وأحزاب الجبهة الوطنية التقدمية وحظر إعادة تشكيلها، وحلّ الأجهزة الأمنية والجيش، وتشكيل مؤسسة أمنية جديدة وبناء جيش جديد على أُسُس وطنية، وحلّ مجلس الشعب، وإلغاء العمل بدستور عام 2012، وحلّ جميع الفصائل العسكرية والأجسام الثورية والسياسية والمدنية، ودمجها في مؤسسات الدولة  

مؤتمر الحوار الوطني: انعقد في 24 و25 شباط/ فبراير 2025، وكان من أهم مخرجاته إقرار نتائج مؤتمر النصر، وتضمّن البيان الختامي 3 بنود تتعلق بخُطوات الانتقال السياسي، هي: الإسراع بإعلان دستوري مؤقت يتناسب مع متطلبات المرحلة الانتقالية ويضمن سدّ الفراغ الدستوري، والإسراع بتشكيل المجلس التشريعي المؤقت، وتشكيل لجنة دستورية لإعداد مسودة دستور دائم للبلاد.  

●  الإعلان الدستوري: جرى التوقيع عليه من الرئيس أحمد الشرع في 13 آذار/ مارس 2025 وتضمن تحديد شكل نظام الحكم الجديد في سوريا بالنظام الرئاسي ملغياً بذلك منصب رئيس الوزراء.  

 الحكومة الانتقالية: جرى الإعلان عنها في 29 آذار/ مارس 2025، وضمت 23 وزيراً، وقد شهد التشكيل الوزاري إحداث وزارتين جديدتين للمرة الأولى بتاريخ الحكومات السورية، وهما وزارة الشباب والرياضة، ووزارة الطوارئ والكوارث، كما دُمجت 3 وزارات وهي التجارة الداخلية، والاقتصاد، والصناعة في وزارة واحدة هي وزارة الاقتصاد، ودمجت 3 وزارات وهي النفط، والكهرباء، والموارد المائية في وزارة واحدة هي وزارة الطاقة.  

●  انتخابات مجلس الشعب: جرت المرحلة الأولى منها في 5 تشرين الأول/ أكتوبر 2025 في 49 دائرة انتخابية تابعة إلى 11 محافظة سورية، وجرت المرحلة الثانية في 23 من الشهر ذاته في دائرتين هما تل أبيض التابعة لمحافظة الرقة، ورأس العين التابعة لمحافظة الحسكة، وتم تأخير الانتخابات في باقي الدوائر في هاتين المحافظتين وفي السويداء ودائرة عين العرب في حلب بسبب وجودهم خارج سلطة الدولة.  

واجهت جميع هذه الخطوات اعتراضات داخلية من المكونات السورية في عدم تمثيلها العادل، وفي عدم تلبية الإعلان الدستوري لمتطلباتها، وبالمقابل وجدت اعترافاً وترحيباً دولياً كان كافياً للاعتراف بالسلطات الجديدة، ويتبقى على هذا الصعيد استكمال تسمية ثلث أعضاء المجلس من طرف رئيس الجمهورية، واستكمال الانتخابات في باقي المناطق، ثم بَدْء صياغة الدستور الدائم للبلاد، وإجراء انتخابات عامة على أساسه، وهو ما سيستغرق 5 سنوات لإكمال المرحلة الانتقالية وفق التصريحات الصادرة عن الحكومة.  

من جانب آخر، سعت الحكومة السورية الجديدة للحفاظ على وحدة الدولة وسيادتها بعد الأحداث التي وقعت في الساحل بتاريخ 6 آذار/ مارس 2025؛ حيث اتجهت نحو عقد اتفاقات سياسية لمنع وقوع مثل هذه الأحداث في أماكن أخرى لما لها من آثار سلبية داخلية، وأخرى خارجية تضر بسمعة الحكومة وتؤثر على مسار إعادة بناء علاقاتها الدولية، وجرى ذلك عَبْر توقيع اتفاقين:  

الاتفاق مع قوات سوريا الديمقراطية (قسد): جرى التوقيع عليه في 10 آذار/ مارس 2025 بين الرئيس أحمد الشرع وبين مظلوم عبدي قائد قسد، وتضمن 8 بنود أهمها رفض دعوات التقسيم، ودمج كافة المؤسسات المدنية والعسكرية في شمال شرق سوريا ضِمن إدارة الدولة السورية، بما فيها المعابر الحدودية والمطار وحقول النفط والغاز.  

خارطة طريق السويداء: وهي اتفاق ثلاثي سوري أردني أمريكي جرى التوقيع عليه في 16 أيلول/ سبتمبر 2025 وتضمن 13 بنداً لإنهاء الأزمة في السويداء، وكان أهمها ذلك الذي نصّ على أن السويداء جزء لا يتجزأ من سوريا، ولا مستقبل لها خارج سوريا.  

لم يتم التوصل إلى تطبيق كِلا الاتفاقين مع نهاية عام 2025، رغم أن اتفاق قسد يتطلب ألَّا يتجاوز تطبيقه نهاية العام الحالي، لكن ما تزال جهود الحكومة والجهود الدولية حثيثة لتطبيق الاتفاقين، وعدم الانزلاق إلى نزاعات داخلية مسلحة من جديد.  

2.   الحصاد السياسي الخارجي:  

منذ الأيام الأولى لعملية ردع العدوان بعثت إدارة العمليات رسائل تطمين للمجتمع الدولي لتعطي الملامح الأولية للسياسة الخارجية التي سوف تتبناها السلطة الانتقالية فيما بعد؛ حيث وجَّهت رسائل إلى روسيا والصين والعراق والأردن، تؤكد فيها على أهداف المعركة وترسل تطمينات بخصوص العلاقات الإستراتيجية ومرحلة ما بعد الأسد، ثم أرسلت إشادة للدول التي رفضت مساندة النظام وأبقت على سفاراتها مفتوحة أو تلك التي وعدت بإعادة استئناف أعمالها القنصلية والدبلوماسية.  

كان تركيز غرفة العملية موجَّهاً في البداية على حلفاء نظام الأسد لتحييدهم، إضافة إلى الدول الإقليمية التي كانت قد اتجهت لتطبيع العلاقات معه استجابة لسياساتها الداخلية التي تضررت بفعل استمرار الحرب كثيراً.  

1. العلاقات مع الولايات المتحدة:  

أبدت السلطة الجديدة منذ الأيام الأولى رغبة في إعادة بناء العلاقات مع الولايات المتحدة، حيث تعاملت بمرونة مع شروطها التي وضعتها، وأظهرت أنها مطالب لا تتعارض مع توجُّه السياسات الداخلية، سواءً بما يخص المشاركة السياسية أم التخلّص من الأسلحة الكيميائية أم مكافحة الإرهاب وغيرها، وكان لقاء "ترامب والشرع في الرياض قد فتح الطريق لسلسلة إجراءات في رفع العقوبات الأمريكية عن سوريا تباعاً ونهائياً، ومهد لمشاركة الشرع في الجمعية العامة للأمم المتحدة في أيلول/ سبتمبر، ثم تقديم الولايات المتحدة مشروع قرار بإلغاء إدراج اسم الشرع ووزير داخليته أنس خطاب من قائمة الإرهاب الأممية في تشرين الأول/ أكتوبر، وأخيراً في استقباله في البيت الأبيض.  

لكن مستقبل العلاقات السورية الأمريكية بقي مرهوناً بقبول الحكومة السورية توقيع اتفاق أمني أو اتفاق سلام مع إسرائيل، ومرهون من جانب آخر بتلبية حقوق الأقليات التي تزداد مواقفها تصلُّباً وتشدُّداً، وخصوصاً في شمال شرق البلاد وجنوبها.  

2. العلاقات مع إسرائيل:  

مع سقوط نظام الأسد شنّت إسرائيل أكثر من 1000 غارة على سوريا، وأعلنت انهيار اتفاق فضّ الاشتباك لعام 1974، وتوغلت في المنطقة العازلة وأقامت فيها 10 نقاط عسكرية منها نقطتان داخل الأراضي السورية بعد حدّ الفصل، واحتلت جبل الشيخ، وأعلنت رفضها الانسحاب من أيّ منها، وقصفت مقر هيئة الأركان السورية، والمنطقة المحيطة بالقصر الرئاسي بدمشق، واستمرت في إرسال دوريات إلى القرى والبلدات السورية وتفتيشها واعتقال مواطنين مدنيين فيها، وأخيراً شنت عملية عسكرية في بلدة "بيت جن" في 28 تشرين الثاني/ نوفمبر.  

رغم ذلك، حافظت الحكومة الجديدة على موقفها في عدم الردّ على الاعتداءات الإسرائيلية، والتعهد بعدم تشكيل أي تهديد لها، والوفاء بالتزاماتها في عدم السماح لأي مجموعات مسلّحة فلسطينية أو إيرانية أو لبنانية بالانتشار قرب الحدود. كما حافظت على موقفها في الموافقة على التمديد لقوات حفظ السلام (UNDOF) نهاية حزيران/ يونيو.  

مضت الحكومة الجديدة قُدُماً في اللقاءات الثنائية والمفاوضات المباشرة مع إسرائيل في العاصمة الأذرية باكو، وفي العاصمة الفرنسية باريس، لكن عملية بيت جن التي وقعت نهاية تشرين الثاني/ نوفمبر أشارت إلى فشل جهود التوصل إلى اتفاق أمني أو اتفاق سلام رغم جهود الوساطة الأمريكية، ومن المتوقع أن يستمر هذا الوضع خلال عام 2026، أو يتجه نحو التدهور فيما لو استمرت الحكومة الإسرائيلية الحالية في الحكم، وحصل زعيمها بنيامين نتنياهو على عفو رئاسي، وفيما لو حدث أي رد أو تصعيد من الجانب السوري على الاعتداءات الإسرائيلية، أو بدأت مقاومة شعبية في المنطقة كما تردد بعد عملية بيت جن.  

3. العلاقة مع روسيا:  

تركزت سياسة الحكومة السورية الجديدة في علاقتها مع روسيا حول تحييدها عن اتخاذ موقف عدائي منها بعد سقوط نظام الأسد حليف روسيا التاريخي، وموطئ قدمها على المتوسط، وقد مهدت هذه السياسة إلى زيارة الرئيس أحمد الشرع إلى موسكو ولقائه الرئيس فلاديمير بوتين في 15 تشرين الأول/ أكتوبر، كما أدّت هذه السياسة إلى تأييد روسيا لقرار مجلس الأمن 2799 الذي صدر في 6 تشرين الثاني/ نوفمبر والذي رُفعت بموجبه العقوبات الأممية عن الرئيس أحمد الشرع ووزير الداخلية أنس خطاب.  

اتبعت الحكومة في مقاربتها للعلاقة مع روسيا سياسة التحوّط مقابل العلاقات الأمريكية، فمع الخُطوات التي قطعتها الحكومة في الخروج من المحور الروسي الإيراني وفق سياسات نظام الأسد، إلا أنها أبقت على علاقات جيدة لموازنة العلاقة مع الولايات المتحدة، ولفتح المجال أمام استعادة العلاقات التاريخية مع روسيا حال حدوث تدهور في العلاقات مع الولايات المتحدة، ومن المتوقَّع أن تبقى العلاقات السورية الروسية في مستواها الحالي، مع إمكانية تحسُّنها حال حدوث اتفاقات غربية روسية في أوكرانيا، وتقدُّم اتفاقات السلام في المنطقة بحيث يكون لروسيا دور في الترتيبات الأمنية فيها.  

4. العلاقة مع الصين:  

سعت الحكومة السورية إلى تحييد الصين عن استخدام الفيتو ضدها في مجلس الأمن الدولي، وبالفعل نجحت في ذلك؛ حيث امتنعت بكين عن التصويت ضد القرار 2799، ومن المتوقع أن تذهب العلاقات نحو التحسن، وإعادة البعثة الصينية بكاملها إلى السفارة لمزاولة عملها في دمشق بدلاً من بيروت التي انتقلت إليها البعثة بعد الاعتداء الذي وقع على السفارة بدمشق في الأيام الأولى لسقوط نظام الأسد، وقد عملت زيارة وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني إلى بكين على إعطاء تطمينات للصين في ملفّ المقاتلين الأجانب المنتمين لحركة تركستان الشرقية الإسلامية، وكان هذا هو الملفّ الأهم في الشأن السوري بالنسبة للصين.  

5. العلاقات مع الدول الأوروبية:  

ركزت الحكومة السورية في علاقاتها الأوروبية على مسارين، هما: رفع العقوبات عن سوريا، وإعادة بناء العلاقات السياسية والدبلوماسية؛ حيث حضرت الحكومة لأول مرة ممثَّلة بوزير الخارجية أسعد الشيباني مؤتمر بروكسل 9 للمانحين في 17 آذار/ مارس، ورحبت فيه رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين بخُطوات الانتقال السياسي الجارية في سوريا، وأظهر المؤتمر تراجُع الاتحاد عن إستراتيجية اللاءات وهي: لا للتطبيع، لا لرفع العقوبات، لا لإعادة الإعمار، وسار الاتحاد في هذا المسار إلى أن قرّر في 20 أيار/ مايو رفع كامل العقوبات المفروضة على سوريا، وكان ذلك بعد أسبوع من إعلان الرئيس الأمريكي رفعها إثر لقائه بالرئيس أحمد الشرع في الرياض.  

من جانب آخر، حضر وزير الخارجية أسعد الشيباني مؤتمر باريس (العقبة 3) في 13 شباط/ فبراير، وصدر عنه بيان اعترف بالحكومة السورية، والتقى على هامشه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالوزير الشيباني، ثم استضاف ماكرون الرئيس الشرع في باريس يوم 7 أيار/ مايو، لكن ورغم الإعلان عن إعادة فتح السفارتين الفرنسية والألمانية بدمشق فإنّ مستوى التمثيل الدبلوماسي اقتصر على تعيين قائم بالأعمال، كما لم يرفع الاتحاد الأوروبي مستوى تمثيله من قائم بالأعمال إلى مستوى سفير، وما زالت بعثة الاتحاد إلى سوريا تعمل من بيروت، ولم تُنقل بشكل رسمي إلى دمشق.  

6. العلاقات مع الدول العربية:  

ركزت السياسة الخارجية السورية على استعادة العمق الإستراتيجي العربي، وإعطاء تطمينات للدول العربية بثبات سياسة الخروج من المحور الإيراني الذي وضع نظام الأسد سوريا فيه منذ ثمانينيات القرن الماضي مع ظهور نظام الخميني.  

كانت العلاقات السورية العربية هي الأوسع نطاقاً، حيث زار الرئيس الشرع 7 دول عربية هي السعودية وقطر والأردن والبحرين والإمارات ومصر والكويت، إضافة إلى حضور قمتَي الجامعة العربية في الدوحة والقاهرة، وأعادت قطر فتح سفارتها في دمشق كما زار أميرها دمشق أيضاً، وقررت الكويت والمغرب إعادة فتح سفارتيهما، وشارك وزير الخارجية الشيباني في القمة العربية العادية في بغداد، إضافة إلى زيارات عربية عديدة متبادلة على المستويات الوزارية، وعلى مستويات التعاون الاقتصادي والأمني.  

رغم الزخم العالي للعلاقات السورية العربية فإنها لم تنعكس حتى الآن في مشاريع اقتصادية واستثمارية تصبّ في تحسين الأوضاع الاقتصادية في البلاد، واستمر هذا الواقع حتى بعد رفع العقوبات الدولية عن سوريا.  

7. العلاقة مع الأمم المتحدة:  

اتبعت الحكومة السورية الجديدة سياسات مختلفة عن سياسات نظام الأسد السابقة في جميع القضايا والقرارات المتعلقة بالشؤون السياسية والإنسانية والأسلحة الكيميائية وحقوق الإنسان، حيث اعترفت الحكومة بولايات جميع لجان التحقيق الدولة، وقبلت بالتعاون معها وتسهيل عملها، والسماح لها بفتح مقرات لها في سوريا، وسمّت نقاط الاتصال بها، وأنشأت من جانبها لجان تحقيق ومؤسسات وطنية يتكامل عملها ومهامها مع عمل اللجان والمؤسسات الأمنية ومهامها، مثل لجنتَي التحقيق في أحداث الساحل والسويداء، وهيئة العدالة الانتقالية، وهيئة المفقودين.  

كانت هذه السياسة سبباً رئيسياً في تحسين سمعة سوريا الدولية، وإظهارها بمظهر الدولة العضو في الأمم المتحدة التي تلتزم بميثاقها، وتُسهم في الحفاظ على السلم والأمن الدوليين، مما سهّل اعتراف الأمم المتحدة بالحكومة الجديدة، وقبول أوراق التفويض الصادرة عنها، ورفع العَلَم الجديد في ساحة الأعلام بنيويورك، ومشاركة الرئيس الشرع في الدورة 80 للجمعية العامة وإلقاء كلمة الدولة السورية فيها، كما سهّل اتخاذ القرار 2799 في مجلس الأمن، وأدى إلى رفع عدد الدول المصوِّتة في تأييد قرار الجمعية العامة المتعلق بالسيادة السورية على الجولان المحتل من 97 دولة عام 2024 إلى 123 دولة عام 2025. كما شاركت سوريا لأول مرة منذ عام 2011 في اجتماعات صندوق النقد الدولي في واشنطن، وقدمت طلباً لتفعيل عضويتها فيه.  

رغم ذلك ما تزال عضوية سوريا معلقة في منظمة حظر الأسلحة الكيميائية، كما أن الأمم المتحدة لم تحسم بعد طبيعة مستقبل وجودها في سوريا بعد التقييم الإستراتيجي الذي قدمته إدارة الشؤون السياسية في الأمم المتحدة، ومن المتوقع أن يتم ذلك قريباً بعد الزيارة الأولى من نوعها لجميع أعضاء مجلس الأمن إلى سوريا التي جرت في 2 كانون الأول/ ديسمبر الجاري، وهي زيارة قال عنها رئيس المجلس صامويل زبوغار إنّها تهدف إلى إعادة بناء ثقة السوريين بالأمم المتحدة، وتعزيز الدعم للعملية السياسية.  

أخيراً دخلت السياسة الخارجية السورية عام 2025 في مرحلة إعادة بناء وتجديد العلاقات التي دمرها نظام الأسد، وحقّقت فيها إنجازات ملموسة على الصعيد السياسي والدبلوماسي، لكنها تبقى إنجازات محفوفة بالعديد من التحدِّيَات والمخاطر، حيث لم تنجح العلاقات الخارجية في حلّ المشاكل الداخلية العالقة في شمال شرق سوريا مع قوات سوريا الديمقراطية، والدفع بتطبيق اتفاق 10 آذار/ مارس معها، ولا في جنوب سوريا في السويداء مع الحرس الوطني التابع لحكمت الهجري والدفع بتطبيق خارطة الطريق الثلاثية السورية الأردنية الأمريكية الموقَّعة في 16 أيلول/ سبتمبر.  

ثانياً: الحصاد العسكري  

1.  حالة وزارة الدفاع السورية:  

بدأت عملية بناء الجيش السوري الجديد بشكل رسمي وفعلي مع تعيين اللواء مرهف أبو قصرة وزيراً للدفاع بتاريخ 21 كانون الثاني/ ديسمبر 2024، واحتفظ بمنصبه عند الإعلان عن تشكيل الحكومة السورية الانتقالية في 30 آذار/ مارس 2025. وتُعتبر تلك الخُطوة نقطة تحوُّل رئيسية ومفصلية في تاريخ الدولة السورية نظراً لانهيار قوات النظام وتفكُّكها. أما فصائل المعارضة المسلّحة بقيادة هيئة تحرير الشام في عملية ردع العدوان التي أطلقتها، وأدت إلى إسقاط النظام في 8 كانون الأول/ ديسمبر 2024، ولدمج جميع الفصائل المعارضة في مؤسسة واحدة منضوية تحت سلطة وزارة الدفاع السورية.  

تقوم خطة وزارة الدفاع على دمج كافة الفصائل العسكرية ضِمن صفوفها دون استثناء، بما فيها قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، وقد أنجزت دمج الفصائل ضمن وحدات عسكرية وفق آلية مؤسساتية وقانونية، إلا أن ذلك لم يشمل بعدُ دمجَ قسد التي تصرّ على الانضمام بهيكلها التنظيمي للوزارة وبشكل مستقلّ عن بقية الوحدات.  

بدأت عملية الدمج بتشكيل لجانٍ اختصاصية بهدف الوقوف على القوى والوسائط لدى الفصائل، لبناء هيكلية تنظيمية تتناسب مع الواقع الميداني، الذي يتميز بعدم الاستقرار الكامل، حيث يحتوي تهديدات أمنية، وفصائل تمتلك عدداً وعتاداً واختصاصات متنوّعة (دفاع جوي - مشاة – مهام خاصة). وقد سارت عملية دمج الفصائل بشكل متوازٍ مع بعضها البعض وفق 3 مراحل:  

●  تشكيل الفِرَق العسكرية من الفصائل التي شاركت في معركة ردع العدوان، ووصل عددها إلى 20 فرقة، موزَّعة بما يتناسب مع الحالة الأمنية والعسكرية على الجغرافيا السورية، وهي فِرَق مختلطة من ناحية التسليح (صنوف – مشاة – قوات خاصة).  


انفو

●  تأسيس إدارات القيادة، حيث تم تشكيل هيئة التدريب، التي تشرف على الجاهزية التدريبية والقتالية للوحدات، وإدارة شؤون الضباط، وشعبة التنظيم والإدارة المسؤولة عن الموارد البشرية في الجيش، إضافة إلى إدارة التسليح، وإدارة الشبكات.  

●  صيانة وتأمين القاعدة التدريبية، المتمثلة بالمنشآت التعليمية العسكرية من أكاديميات وكليات اختصاصية، وتم هيكلتها كما يلي: الأكاديمية العسكرية العليا المتخصصة بالدورات العسكرية المتقدمة، والكلية الحربية، وكلية الإشارة والإلكترون، وكلية الشؤون الفنية والإدارية، وكلية المدفعية والتسليح، وكلية المشاة والاستطلاع، وكلية الهندسة والكيمياء، وكلية المدرعات، وكلية الدفاع الجوي، والكلية الجوية.  

1. حالة التسليح والتدريب:  

اعتمدت وزارة الدفاع في التدريب والتسليح على القاعدة التدريبية والتسليحية التي توفرت لديها، وخاضت بموجبها معركة ردع العدوان، وأعدت هيكليتها التنظيمية بناءً على ما هو متوفِّر لديها، وأدى الحراك السياسي للحكومة السورية الجديدة إلى رفع العقوبات المفروضة على الأجهزة الأمنية والعسكرية نتيجة سلوك نظام الأسد، حيث أعلنت على سبيل المثال الحكومة البريطانية رفعها للعقوبات التي كانت مفروضة على وزارتَي الداخلية والدفاع في سوريا خلال حكم الرئيس المخلوع بشار الأسد. ويتيح رفع العقوبات الدولية بما فيها قانون قيصر مجالاً أوسع للتحرك في مسار تسليح الجيش وتدريبه.  

تشير الزيارات المتكررة والمتبادلة لوفود وزارتَي الدفاع في سوريا وتركيا إلى توجُّه الحكومة السورية إلى تركيا في مجال تسليح الجيش وتدريبه، وعلى المملكة العربية السعودية، باعتبار كِلا الجانبين التركي والسعودي على علاقات جيدة مع الولايات المتحدة الأمريكية، ويبدو أن أهداف هذه الأطراف تتلاقى بما يحقق الاستقرار والتنمية للدولة السورية.  

كما اتجهت وزارة الدفاع من خلال الزيارات المتبادلة مع الجانب الروسي إلى الاستفادة من روسيا في صيانة وتعمير ما يمكن صيانته مما تبقى من أسلحة لدى النظام السابق لم يطلها القصف الإسرائيلي وخاصة القوى البحرية والدفاع الجوي والمدرعات.  

2.   حالة المجموعات المسلّحة خارج وزارة الدفاع:  

تشكّلت في آب/ أغسطس 2025 قوات الحرس الوطني في السويداء، من عدة مجموعات عسكرية كانت تنشط في المحافظة، وتتبع الشيخ حكمت الهجري وهو أحد المراجع الروحية للطائفة الدرزية في سوريا، يستمدّ المجلس قوته من احتضانه عدداً من فلول نظام الأسد والأسلحة التي استولت عليه المجموعات المنضوية فيه من القطعات العسكرية بعد 8 كانون الأول/ ديسمبر، كما يُوفّر له الشيخ حكمت الهجري وهو أحد المراجع الروحية للطائفة الدرزية في سوريا غطاءً سياسياً محلياً ودولياً؛ باستدعائه الدعم من إسرائيل.  

لم تُبدِ الحكومة السورية أيّ موقف من الحرس الوطني، كما لم تحاول إقامة علاقات أو تواصُل معه، لوجود تيار واسع من أبناء السويداء ضدّ هذه الخُطوة، وهم لا يستطيعون التصريح بذلك، بسبب حالة القمع التي يمارسها المجلس ضدّ معارضيه من أبناء المحافظة، ولوجود تيار فاعل ومؤثر وقادر على حلّ المشكلات التي تعاني منها السويداء، خصوصاً المختطفين وإعادة إعمار القرى التي كانت مسرحًا للعمليات في تموز/ يوليو، يمثله كل من سليمان عبد الباقي وليث البلعوس، اللذيْنِ حمَلَا لواء معارضة النظام منذ انطلاق الثورة السورية مطلع عام 2011، ولتوجُّه المجتمع الدولي والحكومة السورية للحفاظ على وحدة الأراضي السورية.  

حتى عندما وقَّعت الحكومة السورية على خارطة الطريق لحلّ الأزمة في السويداء مع الولايات المتحدة والأردن، فقد استُبعد الحرس الوطني من مضامين الاتفاق والمشاركة فيه، بالمقابل عمل الشيخ حكمت الهجري على تعزيز التنسيق بين الحرس الوطني وقوات سوريا الديمقراطية لتحسين موقفه في مواجهة الحكومة السورية، التي يبدو أنّها لا تُخطط حتى الآن إلى دمج الحرس في وزارة الدفاع.  

أمّا قوات سوريا الديمقراطية (قسد) فقد وقّع قائدها مظلوم عبدي في 10 مارس 2025 اتفاقاً مع الرئيس أحمد الشرع، يتضمّن دمجها بشكل كامل في وزارة الدفاع، غير أن هذا الاتفاق لم يُنفَّذ بعد، بسبب خلافات حول آلية الدمج؛ حيث تريد دمشق حلّ عناصر قسد في وحدات الجيش الجديد على غرار ما فعلته مع الفصائل، بينما تُصرّ قسد على الانضمام كتلة واحدة أو على شكل مجموعات لصفوف الجيش الجديد مع الحفاظ على مواقع انتشارها شمال شرق سوريا، بما يضمن لها القيادة المستقلة والسلطة اللامركزية على قواتها.  

تُحاول قسد الضغط على الحكومة السورية من أجل دفعها للقبول برؤيتها لآلية الاندماج، وذلك من خلال تشكيل تحالف مناهض غير معلَن يقوم على دعمها لقوات الحرس الوطني في السويداء، وأنشطة الفلول في الساحل، فضلاً عن استفزازها المستمر للقوات السورية على خطوط التماسّ لجرّها إلى عمليات واسعة ضدها، واستثمارها في إدانة الحكومة بارتكاب انتهاكات ضدها.  

في المحصّلة يبدو أن الحكومة السورية ورغم التقدم النسبي في المجال العسكري، فإن ما حققته خلال عام في هذيْنِ القطاعيْنِ يمثل إنجازاً كبيراً لأسباب ذاتية تتمثل في توحيد الفصائل العسكرية، ولأسباب موضوعية تتمثل في تخفيف تأثير العقوبات الدولية المفروضة على سوريا في إعاقة مسار بناء المؤسسة العسكرية.  

ثالثاً: الحصاد الاجتماعي  

شهدت سوريا خلال عام 2025 تحوُّلات اجتماعية وأمنية عميقة أفرزت واقعاً داخلياً تتقاطع فيه عوامل عدم الاستقرار على مستويات متعددة، فقد أعادت حركة السكان -بين عودة واسعة ونزوح جديد- تشكيل التوزيع الاجتماعي في عدد من المناطق، ما ولّد بيئة اجتماعية سريعة التأثر بالمتغيرات. وفي موازاة ذلك، حافظ المشهد الأمني على درجة عالية من التقلّب نتيجة تعدُّد الفاعلين وتنوُّع أشكال العنف والاختراق، ما فرض تداخُلاً مباشراً بين التوترات الاجتماعية والوقائع الأمنية. وأسهم هذا التفاعل في إنتاج سياق عامّ اتسم بغياب الاستقرار المستدام وبقاء معظم المناطق تحت تأثير ديناميكيات متغيرة يصعب التنبؤ بمسارها.  

بعد مرور عام على سقوط نظام الأسد، سجَّلت المفوضية السامية لشؤون اللاجئين عودة أكثر من 1.2 مليون لاجئ من تركيا ولبنان والأردن ومصر، إضافة إلى عودة ما يقارب مليونَيْ نازح داخلي إلى مناطقهم الأصلية. ومع ذلك، ما تزال سوريا تضم 7.4 مليون نازح داخلي، بينهم أكثر من مليونين في المخيمات، بينما يقيم نحو 5 ملايين نازح متوزعين على المحافظات السورية.  

بالتزامن مع العودة الواسعة، برزت موجات نزوح جديدة بعد أحداث الساحل والسويداء؛ حيث نزح ما يقارب 105 آلاف شخص باتجاه لبنان نتيجة التوترات الأمنية في بعض مدن الساحل والمنطقة الوسطى، إضافة إلى تسجيل 190 ألف نازح داخلي في محافظة السويداء، نتيجة اشتباكات واحتكاكات مجتمعية شهدتها المحافظة خلال تموز/ يوليو 2025. وتُشكّل هذه التحركات مؤشراً واضحاً على أن الواقع الاجتماعي ما يزال متقلباً، وأن الاستقرار المحلي غير قائم بعد في عدة مناطق.  

في بلدان اللجوء، ما تزال الظروف الاقتصادية تؤثر على السوريين بصورة حادة؛ فـ 70% من اللاجئين يعيشون في فقر، وأكثر من 90% في لبنان يعتمدون على المساعدات، بينما تصل نسبة الأُسَر المثقلة بالديون في الأردن إلى 93%، و90% من اللاجئين في تركيا غير قادرين على تغطية احتياجاتهم الأساسية.  

 بالموازاة مع ذلك، شهدت سوريا أنماطاً متباينة من الحراك الاحتجاجي امتداداً للضغوط والمواقف المتراكمة، وتوزعت بين احتجاجات مطلبية قام بها المعلمون وسائقو سيارات الأجرة، وجميعها ارتبط بشكل مباشر بتراجع الخدمات الأساسية وارتفاع تكاليف المعيشة وسياسات التوظيف والقوانين الناظمة للعمل، واحتجاجات ذات طابع طائفي وسياسي، برزت في الساحل وبعض مناطق حمص عقب حادثة زيدل في 23 نوفمبر وما ولدته من توتُّر مجتمعي. ورغم محدودية هذه الاحتجاجات من حيث الزمن والنطاق الجغرافي، إلا أنها تظهر استمرار القلق الاجتماعي وغياب الأمن، الأمر الذي يجعل البيئة الاجتماعية قابلة للتقلب السريع مع أيّ حدث محفّز.  

في المحصلة كان المشهد الاجتماعي مستقراً بشكل نسبي، رغم حدوث موجات نزوح جديدة وتوتُّرات احتجاجية في بعض المناطق، مما يضع مسؤوليات إضافية على المؤسسات الحكومية في إدارة الواقع الاجتماعي عبر الإصلاح المؤسساتي وتحسين الخدمات، واحتواء التوترات المحلية للحيلولة دون توسُّعها أو انعكاسها على السلم الأهلي.  

رابعاً: الحصاد الأمني  

شهدت سوريا خلال عام 2025 حالة أمنية معقَّدة تشابكت فيها العوامل المحلية والإقليمية، وتداخلت فيها أنشطة ستة فاعلين رئيسيين: فلول نظام الأسد، والحرس الوطني في السويداء، وقوات سوريا الديمقراطية، وتنظيم داعش، ومجموعات مجهولة، وإسرائيل التي واصلت تنفيذ عمليات الاختراق والاستهداف شِبه اليومية داخل الأراضي السورية.  

شكّل تعدُّد الفاعلين مشهداً أمنياً متقلباً، تتغير فيه طبيعة المخاطر من منطقة إلى أخرى تبعاً لاختلاف مصادر التهديد وتداخلها، وبرز تأثير تلك الأطراف عَبْر 5 مسارات رئيسية؛ الاغتيالات، والاشتباكات، والاختراقات، والاختطافات، والانتهاكات وهي المسارات التي صاغت البِنْية العامة للحوادث الأمنية خلال العام، وحددت مستوى التوتر في مختلف المحافظات.  

جغرافياً كان هناك تفاوُت واضح في مساحات الاستقرار، ففي المنطقة الوسطى ومدن الساحل عملت فلول النظام باستمرار على إعادة تنظيم شبكاتها واستثمار الثغرات الأمنية لإرباك المؤسسات الأمنية الوليدة، مما جعل هذه المناطق عرضة لضغوط أمنية متقطعة ونشاط مستمر يستهدف الثقة بالأجهزة الأمنية.  

أما جنوب البلاد، فقد شهدت السويداء واحداً من أكثر المشاهد حساسية مع توسُّع نفوذ المجلس العسكري وتحوُّله إلى قوة أمر واقع، الأمر الذي أفرز ديناميكيات جديدة للصراع الداخلي وزاد من حِدّة الاستقطاب المجتمعي. وفي الشمال الشرقي، برزت قسد كأحد العوامل المعرقلة للاستقرار، إذ تحول وجودها العسكري والإداري إلى عِبْء مباشر على الدولة نتيجة سياساتها الانفرادية ورفضها الانخراط الكامل في تطبيق اتفاق 10 آذار/ مارس الهادف إلى إعادة هيكلة القطاع الأمني، وأدى هذا التشدد إلى خلق فراغات أمنية واسعة سمحت بعودة نشاط داعش وخلاياه على نحو ملحوظ شمال سوريا ووسطها، مما انعكس بشكل مباشر على المؤسسات الأمنية للدولة السورية.  

من جانب آخر، ظلت العمليات الإسرائيلية عاملاً مسبِّباً للتوتر الأمني وعدم الاستقرار جنوب البلاد، إذ ساهمت الاختراقات المتكررة عَبْر القصف الجوي والتوغل العسكري وتنفيذ عمليات في عمق محافظات درعا وريف دمشق في إبقاء الوضع الأمني مفتوحاً على احتمالات التصعيد، هذا فضلاً عن دعم الحرس الوطني في السويداء، مما أضفى بُعداً خارجياً إضافياً على معادلة الأمن الداخلي.  

أما الجهات المجهولة، فقد كانت أحد أكثر عناصر المشهد الأمني إرباكاً خلال العام الماضي، حيث نفذت عمليات مدروسة يصعب ربطها بفاعل محدَّد، وأسهم هذا النمط من العمليات في خلق بيئة توتُّر يصعب التنبؤ بها، وفي تعطيل جهود تثبيت الاستقرار.  

في سياق منفصل، حرصت الحكومة السورية الجديدة منذ تسلُّمها زمام السلطة على ألَّا يكون للجيش أيّ دور في الناحية الأمنية، ولذلك أنشأت وزارة الداخلية الأجهزة الأمنية والشرطية (الأمن الداخلي وإدارة المرور والمباحث الجنائية وإدارة مكافحة الإرهاب وإدارة حرس الحدود) التي يقع على عاتقها الحفاظ على الأمن والقضاء على مهدِّداته، دون الاستغناء عن الجيش في الحالات التي يتم التخوف فيها من انزلاق الأمور وحدوث مواجهات مجتمعية.  

استخدمت كِلتا الوزارتين وأجهزتهما المختصة التقنيات الحديثة في تنفيذ مهامها، حيث تمكنت إدارة حرس الحدود على سبيل المثال بالتعاون مع الفرقة 52 عَبْر الطائرات المسيرة من ضبط الحدود السورية اللبنانية، وإحباط العديد من المحاولات لعناصر محسوبة على حزب الله اللبناني من استهداف القوات السورية داخل أراضيها.  

بشكل عامّ، واجه المشهد الأمني خلال العام الماضي عدداً من التحدِّيَات أبرزها، نشاط فلول نظام الأسد، الذين يُعتقد أنهم تلقَّوْا دعماً من أطرافاً محلية مثل قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والحرس الوطني في السويداء الذي احتضن المئات من بقايا جيش النظام. كما واجه الواقع الأمني مخاطر من محاولات تنظيم داعش زعزعة الاستقرار في مناطق الحكومة. 

خامساً: الحصاد الاقتصادي  

منذ سقوط نظام الأسد دخل الاقتصاد السوري مرحلة انتقالية معقَّدة انتقل فيها من انكماش عميق إلى بداية استقرار حَذِر، مستفيداً من تشكيل حكومة انتقالية وتخفيف ملموس للعقوبات الدولية ثم إلغائها نهاية عام 2025. ورغم التقدّم في توحيد السياسات وتحسين البيئة الاستثمارية، ما يزال مستوى المعيشة في أدنى مستوياته منذ عقود، كما بقي أثر الإصلاحات محدوداً على معدلات الفقر والبطالة. وخلال عامها الأول ركّزت الحكومة الجديدة على إصلاح المالية العامة، وتوحيد السياسة النقدية، وإطلاق رؤية استثمارية جديدة، وتعزيز الاندماج الإقليمي والدولي، إلا أنّ نتائج هذه السياسات ما تزال بحاجة إلى تطوير وإسراع في التنفيذ.​  

1. خطّ الانطلاق – اقتصاد منكمش ومجتمع منهك:  

عند سقوط النظام كان الاقتصاد السوري في حالة انهيار بنيوي عميق. فقد أظهرت تقديرات البنك الدولي انكماشاً تراكمياً يفوق 50% في الناتج المحلي مقارنة بعام 2010، ليبقى الناتج الحقيقي في 2023 عند نحو 38% فقط من مستواه قبل الحرب، مع    خسائر كلية تجاوزت 864 مليار دولار. كما سجّل الاقتصاد انكماشاً إضافياً بنحو 1.5% في 2024، فيما تراجع نصيب الفرد إلى نحو 830 دولاراً، ما جعل سوريا فعلياً دولة منخفضة الدخل.  

هذا الانهيار الاقتصادي ترافق مع مستويات غير مسبوقة من الفقر؛ إذ إن 69% من السكان كانوا تحت خط الفقر عام 2022، وقرابة ربعهم في فقر مدقع. أما عام 2024 فقد كان نحو ثلث السكان في فقر شديد، وثلثي السوريين تحت مختلف خطوط الفقر. كما شهدت البلاد تضخُّماً متسارعاً، وانهياراً في سعر الصرف، وعجزاً تجارياً يتجاوز 70% من الناتج، ودَيْناً عاماً يزيد عن 250% من الناتج عام 2023 [1] ، وهو ما عكس اقتصاد حرب شديد الاعتماد على الواردات والاقتصاد غير الرسمي والشبكات الريعية.  

2. سياسات الحكومة الانتقالية – محاولة لإعادة هندسة الاقتصاد:  

مع تشكيل الحكومة الانتقالية برئاسة الرئيس أحمد الشرع، اتجهت السلطة الجديدة إلى توحيد الأُطُر الاقتصادية التي كانت مشرذمة خلال سنوات الحرب. وشمل ذلك توحيد السياسة المالية والنقدية على مستوى البلاد، وتحسين حَوْكَمة المال العامّ، وتنسيق السياسات بين المناطق التي كانت خارجة عن سيطرة الدولة [2] . وأكّد الخطاب الرسمي للرئاسة الانتقالية أن الأولويات هي إصلاح قطاع الطاقة لضمان كهرباء مستقرة، ودعم الفلاحين وتعزيز الأمن الغذائي، وإحياء القاعدة الصناعية وحماية المنتج الوطني، وضبط سعر الصرف ومنع المضاربات.  

إلى جانب ذلك، طُرحت رؤية تنموية جديدة ترتكز على 3 محاور مترابطة، هي: تقليل الاعتماد على المساعدات المشروطة، وتحفيز الاستثمارات المحلية والأجنبية عَبْر بيئة قانونية أكثر مرونة، وإطلاق مناطق اقتصادية خاصة في المحافظات الأكثر تضرراً، بالتزامن مع تعزيز الشفافية ومنع تداخُل القرارين السياسي والاقتصادي. وعلى الصعيد الخارجي، عملت الحكومة على استعادة العلاقات الإقليمية والدولية، الأمر الذي تُوّج برفع كامل للعقوبات الأوروبية ثم الأمريكية عام 2025، بما في ذلك تعليق معظم القيود على الاستثمار والتعاملات المالية والنفطية بهدف دعم إعادة الإعمار والاندماج المالي.  

3. حصيلة عام الانتقال – استقرار هشّ ونتائج اجتماعية محدودة:  

ساعد مزيج التوحيد المؤسسي وتخفيف العقوبات في إيقاف مسار الانكماش، مع توقُّع تسجيل نمو طفيف يقارب 1% في 2025 بعد انكماش 1.5% في 2024، رغم استمرار نقص البيانات الاقتصادية وارتفاع درجة عدم اليقين المحيطة بها. كما رصد تحسُّن في حركة التجارة وتدفُّقات النقد الأجنبي، إضافة إلى الاستقرار النسبي في سعر الصرف، واستفادت الحكومة في ذلك من دخول مؤسسات استثمارية تنموية وبَدْء شركات إقليمية باستكشاف الفرص في السوق السورية.  

إلا أن الأثر الاجتماعي لهذه التحوُّلات ما يزال محدوداً؛ فالفقر المدقع ما زال يطال نحو ثلث السكان، وظل نحو ثلثَي السوريين تحت خطوط الفقر، كما تستمر أزمات الأمن الغذائي والبطالة وضعف الخدمات العامة، مما يؤكد أن سنة واحدة من الإصلاحات لا تكفي لعكس تراكمات الانهيار الطويل. وبالتالي يحتاج الاقتصاد السوري خلال العامين المقبلين إلى انتقال من "إدارة الأزمة" إلى وضع "أجندة تحوُّل بِنْيَوِيّ" تُعيد بناء نموذج إنتاجي جديد أكثر قدرة على خلق النمو وفرص العمل.  

4.   نحو مسار تعافٍ مستدام – ملامح الأجندة الاقتصادية للمرحلة المقبلة:  

يُمثّل عام 2026 المقبل اختباراً حاسماً لقدرة الحكومة على الانتقال من معالجة الأزمات الآنية إلى وضع أُسُس تحوُّل اقتصادي طويل الأجل. ويتطلب ذلك تبنّي حزمة سياسات مترابطة تُعيد بناء الثقة وتُطلق عملية التعافي على نحو مستدام. ففي المجال الكلي، تبدو الحاجة مُلِحّة إلى برنامج استقرار متدرّج يُحقّق توازناً دقيقاً بين ضبط العجز والدَّيْن من جهة، وبين حماية الإنفاق الاجتماعي من جهة أخرى، مع توسيع القاعدة الضريبية وتقليل الاعتماد على الضرائب غير المباشرة التي تُثقل كاهل الأُسَر الأكثر هشاشة.  

في موازاة ذلك، يكتسب إصلاح قطاع الطاقة أهمية مركزية، إذ لا يمكن لأيّ تعافٍ إنتاجي أن يتحقق دون معالجة معضلة الكهرباء. ويستدعي ذلك إعادة هيكلة التعرفة بما يعكس القدرة الحقيقية على الدفع، وتحفيز الاستثمار في التوليد والنقل والشبكات اللامركزية، على أن يُستبدل الدعم العيني بتحويلات نقدية مباشرة تضمن حماية الفئات الأكثر ضعفاً.  

كما يتطلب إنعاش الاقتصاد توجيه الجهود نحو إطلاق أجندة إنتاجية وطنية تُعيد توجيه البِنْية الاقتصادية نحو قطاعات قادرة على خلق فرص عمل واسعة، لا سيما سلاسل القيمة الزراعية والصناعات كثيفة العمالة. وفي هذا السياق، يمكن أن تشكّل المناطق الاقتصادية الخاصة، التي يتم العمل عليها من قِبل الحكومة ووزارة الاقتصاد والصناعة، رافعة مهمة إذا رُبطت بحوافز للتوظيف الرسمي والتصدير بدلاً من الامتيازات الريعية التي طبعت اقتصاد الحرب.  

وبما أنّ رأس المال الاجتماعي والمالي السوري يمتدّ إلى الخارج، فإن تفعيل دور الشتات يُشكّل ركناً أساسياً في رؤية التعافي. ويمكن تحقيق ذلك عَبْر أدوات مالية موجَّهة للمغتربين مثل الصكوك والصناديق الاستثمارية المشتركة، إلى جانب ضمانات قانونية واضحة لحقوق الملكية والتحويلات، بما يعيد ربط ملايين السوريين باقتصادهم الوطني.  

أخيراً يبقى نجاح أيّ إصلاح رهناً بوجود منظومة حَوْكَمة قوية قادرة على تفكيك البنى الريعية المتجذِّرة. ويتطلب ذلك تطوير هيئة مستقلة للشفافية ومكافحة الفساد، وإجراء حَوْكَمة رقمية لعمليات الجباية والإنفاق، ونشر بيانات المالية العامة بشكل دوري. كما يستوجب ربط الإصلاح الاقتصادي بمسار عدالة انتقالية يُعيد الثقة بين الدولة والمجتمع، ويضع حَدّاً لاقتصاد الحرب الذي عطَّل التنمية لعقود.  

خلاصة  

مثَّل العام الأول على التحرير مرحلة شديدة الحساسية في مسار إعادة تشكيل الدولة السورية، إذ تداخلت خلاله مستويات التحول السياسي والعسكري والاجتماعي والأمني والاقتصادي، لتنتج حصاداً مركباً يعكس حجم التحدِّيَات والفرص معاً. فعلى المستوى السياسي، تمكنت السلطة الجديدة من وضع مرتكزات العملية الانتقالية، وتحصيل اعتراف دولي مكَّنها من تثبيت بِنْيتها المؤسسية، رغم استمرار الاعتراضات الداخلية والحاجة إلى استكمال هياكل الشرعية التشريعية والدستورية. وفي الجانب العسكري، نجحت وزارة الدفاع في تحقيق تقدُّم لافت عَبْر دمج الفصائل وتأسيس قاعدة تنظيمية جديدة، لكن بقاء ملفات عالقة -وعلى رأسها ملفّ قسد والحرس الوطني في السويداء- أبقى المشهد الأمني والاستقرار في البلاد أمام اختبارات متواصلة.  

اجتماعياً ورغم عودة واسعة للاجئين والنازحين، بقي الواقع الداخلي تحت تأثير موجات نزوح جديدة واحتجاجات تُعبّر عن ضعف البِنْية الاجتماعية واحتمال تعرُّضها السريع للاضطراب. أما أمنياً فقد شكَّل تعدُّد الفاعلين وتبايُن مستويات نفوذهم عاملاً رئيسياً في استمرار التقلُّب، مما جعل مهمة الدولة في ضبط المشهد الأمني رهناً بقدرتها على إدارة التهديدات المتداخلة ومنع تحوُّلها إلى صراعات مفتوحة.  

اقتصادياً مثّل العام الأول انتقالاً من الانكماش العميق إلى استقرار حَذِر، مكَّن من وقف التدهور دون القدرة بعدُ على إحداث تحسين ملموس في معيشة السكان، وهو ما يعكس حجم تراكمات الانهيار وطول الطريق نحو تعافٍ مستدام.  

في المحصّلة، كشفت حصيلة عام على التحرير عن مشهد يتقدم بخُطًى محسوبة وسط بيئة داخلية وإقليمية معقدة. ورغم التحدِّيَات، فقد تمكنت السلطة السورية الجديدة من تثبيت الحدّ الأدنى من الاستقرار السياسي والعسكري والاقتصادي، بينما يبقى نجاح المرحلة المقبلة مرتبطاً بقدرتها على استكمال البناء المؤسسي، وتهدئة البيئات المحلية، وإحكام السيطرة الأمنية والعسكرية، وإطلاق تحوُّل اقتصادي قادر على الاستجابة لحاجات مجتمع أنهكته الحرب والتحوُّلات الكبرى.  


 


 

[1]   Syria: Growth Contraction Deepens and the Welfare of Syrian Households Deteriorates, World Bank Group, 24-05-2024,    Link .  

[2]   New World Bank Report Highlights Syria's Economic Challenges and Recovery Prospects for 2025, World Bank Group, 07-07-2025,    Link .  
 

Araştırmacılar